خليل فرح ... عازة في هواك
1894 م - 1932 م
[size=32]المولد [size=32]و النشأة[/size][/size]
ولد خليل فرح في قرية دبروسه منطقة حلفا ، وفي سجل خدمته أن ذلك كان سنة 1894 غير أن شهادة تاريخها 28 يوليو 1928 تشير أن ذلك كان عام 1892 وقّع عليها كاشف حسن بدري كاتب ادارة ضبطية الخرطوم وشخص آخر لم نتبين اسمه وشغله صراف بالمالية ولعله من أهله ،
نصها :
" نشهد نحن الموقعين أدناه أن لنا المعرفة التامة بالشيخ فرح بدري والست زهرة الشيخ محمد . والد ووالدة خليل فرح بدري مستخدم بمصلحة البوستة والتلغرافات السودانية . المولود في وادي حلفا بتاريخ أغسطس 1892 وان والده الشيخ فرح بدري محسي الجنس مولود بجهة عبري مديرية حلفا . وأن موطنة الشرعي حين زواجه بالست زهرة الشيخ محمد كان بجهة وادي حلفابمديرية حلفا وموطنه حين ولد ابنه المذكور كان بجهة وادي حلفا وأن والدته الست زهرة الشيخ محمد محسية الجنس مولودة بجهة عبري مديرية وادى حلفا ونشهد أيضاً أن خليل فرح تلقى علومه جميعها بالمدارس السودانية وتحررت هذا الشهادة لاعتمادها تحت مسئولينا " .
بينما تنبئ شهادة أخرى أن خليل فرح لم يكن مسجلاً بدفاتر مواليد حلفا 1891 إلى 1895 . وههنا اضطراب في تاريخ الميلاد ولا ندري ما كان الغرض من تحرير شهادة مثل التي وقع عليها كاشف حسن بدري ، خاص وأنها جاءت بعد نحو خمس عشرة سنة مبدأ عمله بالحكومة ! وقد رزق فرح بدري من الولد ستة هم خليل ، بدري ، حسن ، فاطمة ، عثمان ، وعلي فرح . وكان والد خليل يعمل بالتجارة وتلك جعلته كثير الأسفار في المنطقة بين حلفا ودنقلا . وكثيراً ما كان خليل يصحبه في تجواله وتوفى أبوه عام 1915 . وأمه سنة 1927 .
ومن مقال تم نشره سابقاً كتبه البروفيسر الفاتح الطاهر قال فيه :
في يوم( 30/6/1932م) رحل عنا الفنان الكبير خليل فرح بجسده المادى اما روحه وتراثه الغنائى العريق فما زال باقياً واثاره واضحة على مسار حياتنا الفنية . فكلما اتسعت المسافة ازدادت سنوات الرحيل وكانت الاراء اكثر دقة وموضوعية لان النظرة هنا تصبح شمولية وتصبح من حق التاريخ.
والفنان الحقيقى لايموت فالموت رغم جبروته وقوته لم يستطع ان ينال منه ، ولو سئلت عن الفنان الذى ازدادت شعبيته بعد ان لقى ربه وكبر عدد معجبيه بعد وفاته لقلت بدون تحفظ (خليل فرح).
ونحن لا نذكر الخليل لانه مجرد شاعر وملحن ومؤدى ولكن لانه من ابرز ابناء هذا البلد ، ومن الرواد الذين شقوا لفن الغناء السودانى طريقاً تتبع ما يطلق عليع مؤرخو الموسيقى بالاتجاه القومى ، وهذا الاتجاه يعتمد على استلهام التراث الشعبى الغنائى فى انتاجه فيقدمه باساليب فنية متعددة .. فاغنية (عزة فى هواك) اخذ مقدمتها الموسيقية من (مارش ود الشريف) والتيمة الاساسية (اللحن الاساسى) من الاغتية الشعبية ( عمتى حوا ماشفت الليلة الفنجرى ).... واغنية ( تم دوره ادوار) جارى بها الاغنية الشعبية (سيرة مرقت كية للنوارة ) .
حقاً جاء الخليل بلهجة جديدة فى فن الغناء السودانى ، احب النيل وانسان النيل ووادى النيل ولذا نجد اغانيه امتازت بالطرب وصدق التعبير والاصالة الفنية وايقاع الالحان وجمال وحداثة الكلمات واصبحت كل اغنية من اغانيه اشبه بلوحةمتكاملة من حيث التوازن والايقاع مع مراعاة البناء العام .. فالمطلع يكرره واحياناً ينوع فى تشكيلة وايقاعه ثم يعود اليه مرة اخرى فى تناغم وترابط بحيث تنصهر كل مقاطع الاغنية فى تناسق عضوى دون خلل او نشاز وهذا نتاج ثقافته وذكائه.
والان بعد مرور اكثر نصف قرن على وفاته .. اين تقع اين تقع اعماله الفنية فى حياتنا الثقافية؟ وماذا تعرف الاجيال الجديدة من الشباب عن هذا الفنان العبقرى ؟ الذى اغدق فى فن الغناء اكثر مما اغدق فى تخصصه الاصلى وهو المهندس الناجح.
ولد خليل فرح فى قرية دبروسة منطقة حلفا عام 1894م ونال جزأ من تعليمه فى خلوة الشيخ احمد هاشم) بجزيرة (صاى) والكتاب فى (دنقلا) والهندسة الميكانيكية فى (كلية غردون ) ثم التحق بمصلحة البوستة والتلغراف مهندساً .
فى اوائل العشرينات سكن الخرطوم وفيها تفتحت عينه امام افاق جديدة وخاصة موقع سكنه كان بالخرطوم القديمة خلف مدرسة (اليونيتى) (مدرسة الاتحاد العليا حالياً) وكان سكان هذه المنطقة هم خليط من المصريين والشوام والاغاريق والسودانيين ، وكان المصريون هم الاكبر عددية ، فالحربية المصرية كانت هناك ايام (سير لى ستاك) حاكم عام السودان وسردار الجيش المصرى ، اما السودانيين الذين يسكنون تلك المنطقة كانوا يجارون المصريين فىثقافتهم فى تفكيرهم فى ملبسهم فى مأكلهم كانوا يلبسون الطربوش والجاكتة والجلابية ، ويسمعون الاغانى المصرية من الفونغراف ابو ابرة (صوت سيدة) ولذا نجد سكان هذه المنطقة يختلفون عن سكان ام درمان والخرطوم بحرى بالنسبة لحياتهم الاجتماعية ، وفى هذا الجو المفعم بعطر الشرق الملئ بالفن العربى الاصيل ، بدأ خليل يسمع من ابناء الحى من المصريين اغانى (صالح عبدالحى وسيد درويش ومنيرة المهدية واناشيد ثورة 1919م ) والتى صاغها شعراء (مكرم عبيد) فتأثر بها وبدأ يغنيها بعناية ودراية وكان (شيخ الصادق المصرى) من اشهر عازفى العود فى الخرطوم فى تلك الايام الى جانب (احمدخليل المصرى) واخر اسمه احمد وكانوا هم الذين يقيمون حفلات الخرطوم فى تلك الايام .
كان هذا الجو حافزاً للخليل لاظهار مواهبه الفنية ودفعه لاقتحام ميدان الفنهذا الميدان البكر ، فتعلم العزف على العود .. وبناء على على طلب احد الاصدقاء تعرف على عازف الماندولين والمترجم الناجح (عبدالقادر سليمان) فى نادى الخريجين وكان موقع النادى انذاك ، والبناية القديمة المهدمة حالياً وتقاصد فندق المريديان من ناحية شارع القصر (شمال الفندق) استمع اليه الخليل واعجب بعزفه ، فكونا ثنائى الجيل يغنى وعبدالقادر يعزف ، وكانت دار صديقه الراحل (حسين احمد سكر) ملتقى للادباء والمفكرين والفنانين ، وفى مجلسهم الخاص يغنى الخليل وعندما يدخل شخص مهما كان حجمه ووزنه ولم يكن يعرفه يرفض ان يغنى حتى يغادر هذا الشخص المكان ، والمعروف عن الخليل انه لم يغنى طوال حياته لا فى بيوت الافراح ولا المناسبات الا عند الصفوة من الاصدقاء وفى حدود ضيقة.
كان فن الغناء فى تلك الايام وهى اواسط العشرينات 1923م يتزعمه الفنان (محمد احمد سرور) وفرقته الفنية (الشيالين) وقد ابتكر هذا النوع من الغناء فى مدينة ام درمان ، ومن بين رواد هذه المدرسة عمر البنا ، عبدالله الماحى ، كرومة ، وعلى الشايقى وغيرهم ومن بين المطربين المستحدثين الذين حافظوا على تقاليدها وساروا فى ركبها ( محمد احمد عوض، بادى محمد الطيب ، عوض الكريم عبدالله، كمال ترياس، القلع عبدالحفيظ ،حسين شندى) اما مدرسة خليل فرح الخرطومية فاستغنت عن الشيالين وحلت مكانهم الالة الموسيقية فادخل العود والماندولين والكمان والبيانو والبدلة الكاملة والكرفتة والطربوش ، ومن رواد هذه المدرسة ( ابراهيم عبدالجليل، زنقار، اسماعيل عبدالمعين، حسن سليمان، حسن عطية ، احمد المصطفى) وجيل الورثة الفنية (ابراهيم عوض، محمد وردى، محمد الامين، ابوعركى البخيت الخ...)
فما فعله الخليل جديد وجرئ والجديد فى الفن لا يأتى الا عندما يخرج فنان معين عن قاعدة ويقدم شيئاً لم يكن معروفاً من قبل وتتقبله الجماهير ويصبح هذا الشئ هو القانون الجديد ويدخل مع الايام الحصيلة الفنية العامة ، هذا ما فعله الخليل فهو فنان ذكى رفعه ذكاؤه الى درجة العبقرية فاغانيه تعتبر النموذج الحى المتطور فى الغناء السودانى ( فى السبعين سنة الاخيرة ) فهو منذ البداية ارتقى بذوق الجماهير فجعل اغانيه تمتاز بالعمق وارتفاع المستوى الفنى ، ( الشرف الباذخ، يا نيلنا يا نيل الحياة ، ماهو عارف ، فى الضواحى، بين جناين الشاطئ ، عازة) واصبح الرائد والقائد والشخصية التى لن تتكرر وصوت لن يجود بمثله الزمان .
فى اواسط العشرينات اصبح فن الغناء جزءاً من ثورة اجتماعية ضخمة اشتعلن فى ارجاء البلاد عقب ثورة 1924م وكانت تجسيداً تلقائياً مباشراً وقوياً جداً لحاله الصحوة العامة فى الحياة السودانية فى تلك الايام استطاع من خلالها ان يطوع اعقد الامانى السياسية لتصبح كلمات غنائية قابلة للحفظ والترديد وهى تحمل الانشغال بقضايا وطنية ومنا ما يشبه الاعجاز وانطلق الشعب كله ورائه يغنى ويشدو ويتعبد فى محراب الوطنية والشعور بالانتماء الى هذا البلد ، لقد ساهمت اعماله فى النضال الشعبى بعد اخفاق ثورة 1924م منها ( نحن ونحنالشرف الباذخ و نيلنا يا نيل الحياة) وهكذا يبدو الخليل وكانه يحشد اكبر قدر منالمعانى والشعارات الوطنية ضد الاستعمار البريطانى ، خاصة والخليل كان عضواً فى جمعية الاتحاد السودانى التى اسست عام 1921م.
فحياة هذا الفنان العبقرى رغم قصرها حافلة بالكفاح ولذا استطاع فى فترة قصيرة ان يثبت وجوده كفنان ، ولا ننسى فضله التاريخى فهو اول ابناء جيله من عالج التلحين بالصيغة الغريبة الدائرة ، ففى اغنية (الشرف الباذخ) نجده لحنها بحرص واضح على الصياغة المتنوعة المطلع وثلاث كوبليهات ويختلف كل كوبليه عن الكوبليه الاخر وبهذا اراد وهو رائد المدرسة الفنية الاولى ان يدمج ثلاث اغنيات قصيرة فى اغنية واحدة ويربطها جميعاً بخيط واحد هو ترديد المطلع ( نحن ونحن الشرف الباذخ) فتزيد من ترابط اللحن وتتابعه فى سهولة وجمال ورقة ويستمر حتى نهاية الاغنية.
لقد ارتفع الخليل فى هذه الاغنية لتسمو فوق الحان الشكوى الناعمة المتداولة التى كانت تسيطر على اغنيات الحقيبة _ الحب الواثق من نفسه المعتز بكبريائه ، وفى اغنية عازة نجده على وجه التحديد اراد ان يكسر الحاجز بين اغنية الحقيبة والاغنية الشعبية ويقدمها فى ثوب جديد ، لحن شعبى وكلمات وضعها مجارياً بها اللحن ونلاحظ فى مقدمة الاغنية تصرفات موسيقية جديدة وغريبة ، استعماله لالة البيانو وبشكل مميز مع الكمان والعود وهذه التوليفة الفنية هى الاولى فى نوعها عالمياً فلا سيد درويش ولا بعده الحامولى ولا صالح عبدالحى ولا عبدالوهاب استطاعوا ان يمزجوا هذه الالات معاً فى عمل فنى قبل اغنية عازة والتى سجلها الخليل عام 1931م ، ولكن فى عام 1939م ادخل عبدالوهاب الة البيانو فى اغنيته(انت وعزولى وزمانى حرام عليك.)
اما المقطع الثانى نجده اداه باحساس رقيق غير متداول فى اغانى هذه الايام ثم تطل علينا جملة (عازة ما سليت) من الفرقة المصاحبة بفطرته الموسيقية الذكية ، فيغنيها فنجد فيها شيئاً غريباً وملفتاً للنظر تتقبله الاذن ببساطة واستمتاع حتى يصل بنا اللحن الى اعلى درجات فخامته حينما يهتف فى همس ورقة فى ختام المقطع الثالث للاغنية ( آه آه ... أنا ..آه آه) لتنتهى الاغنية بصوت ممدود وغير مقيد بزمن وهذا اسلوب جديد ادخله الخليل فى الاغنية السودانية.
لقد جاء الخليل بلهجة جديدة حقاً فى فن الغناء السودانى ليست بلهجة سرور وان كانت جزورها تمتد الى سرور وهذه هى القيمة الفنية الحقيقية للخليل ، ولا جدال فى انه هو رأس المدرسة الفنية الاولى (حقيبة الفن) وهذا جزء من عبقريته وهو استاذ المدرسة ، صحيح أن سرور رافد من الروافد العظيمة العذبة و الامين برهان رافد اخر متألق كرومة رافد عريق مجيد ولكن الخليل كان هو المسئول عن مناهج المدرسة جميعها ، فلولاه ولولاهم لما تعلمنا الغناء ولا اصوله ، لانهم كانوا يمتازون بالعطاء وحياتهم وقفاً على الفن واغانيهم اصيلة نابعة من القلب وكان الجمهور صادقاً معهم يدفعهم للامام والاجادة.
فالفنان الحقيقى لا يموت ابداً بل يظل حياً بفنه فى قلوب الملايين ، فخلود الخليل يكمن فى ان اغانيه قابلة للتحليل العلمى بكل المفاييس العلمية وكل المقاييس الحديثة بحيث يمكن اعادة توزيعها وتقديمها فى ثوب جديد ، فعازة ، فلق الصباح ، ياليل صباحك مالو ، بين جناين الشاطئ ) التى قام بعلمنتها مؤلف هذا الكتاب للكمان والبيانو وقام بعزفها عازف الكمان الروسى ( ريباكوف وزوجته لودميلا) واغنية (عازة وفلق الصباح) التى قام بتوزيها الخبراء الكوريين خير دليل على ذلك.
له الرحمة ولنا السلوى فى فنه الساكن فى وجداننا والذى يعيش فى وجدان الزمن.
من أجمل قصائد خليل فرح
عازة في هواك
عازة في هواك عازا نحن الجبال
وللبخوض صفاك عازا نحن النبال
عازة ما بنوم الليل محــــال
وبحسب النجوم فوق الرحال
خلقة الزاد كمل وأنا حالي حال
متين أعود أشوف ظبياتنا الكحال
عازة ما سليت وطن الجمــال
ولا أبتغيت بديل غير الكمــال
***
وقلبي لي سواك ما شفتو مال
خذيني باليمين وانا راقد شمال
عازة ما نسيت جنــة بلال
وملعب الشباب تحت الظلال
ونحن كالزهور فوق التلال
نتشابي للنجوم وانا ضافر الهلال
عازة جسمي صار زي الخلال
وحظي في الركاب صابه الكلال
وقلبي لسه ما عرف الملال
أظنه ود قبيل وكريم الخلال
عازة ما أشتهيت نوم الحجال
ولا السوار بكي في يمينا جال
وعازة في الفريق لي ضيق مجال
قبيلة بت قبيل ملأ الكون رجال
***
عازة شفت كيف نهض العيال
جددوا القديم تركوا الخيال
روحك أم سماح سري كالسيال
شجوا الفؤاد حيوا محسور الليال
عازة في الفؤاد سحرك حلال
ونار هواك شفا وتيهك دلال
ودمعي في هواك حلو كالزلال
تزيدى كل يوم عظمة ازداد جلال
***
عازة في حذا الخرطوم قبال
وعازة من جنان شمبات حبال
وعازة لي ربوع ام در جبال
وعازة في الفؤاد دوا يشفي الوبال